Kamal Ghazi's profile

ماهية الزمن

تقدم الواحدانية تصورا باستقامة الزمن، حيث يعتقد المؤمنون من أديان التأليه في زمن يتقدم للأمام بلا إمكانية للانتكاس. تمنح الدوجما تفسيرا لكيفية انطلاق الزمن من نقطة بدايته، وكيف سيصل في نهاية المطاف المقرر له إلى النقطة التي يتوقف فيها. لا أريد الخوض في مناقشة استقامة الزمن، بدايته أو نهايته الآن، كل ما أسعى إليه فهم مبتدأ للزمن. يمكن تصوير مثل هذا التصور على النحو التالي:
ينطلق الزمن في اتجاه مستقيم، ويشمل الماضي، الحاضر والمستقبل. توجد كل حقبة بشكل مستقل في الإدراك الإنساني، وتشمل الذات الإنسانية الزمن بشكل كليّ، متضمنة جميع مشتقاته. ويخلق هذا التصور فكرتين عن الزمن: أولا، استقامته من حيث مساره الموجّه، وثانيا، أنه متقطع إلى وحدات مكوّنة. يطلق الفكر العام “اللحظة”، بشيء من التجاوز، على أصغر وحدة مكوّنة للزمن.
الفكرة الأولى التي تعزز من استقامة الزمن، تجعلنا نؤمن ضمنيا ببداية، مسار، ونهاية للزمن. هذه الفكرة تفسر الزمن ككيان موضوعي. أما الفكرة الثانية فلديها مشكلة رغم أنها مؤيدة علميا، فتقول بأن العالم يتألف من أصغر وحدات الزمن في سيرورة مستمرة.
نعتبر عادة أن اللحظة الحالية مستمرة، ولكن متغيرة. اللحظة التي كتبت فيها هذه الكلمة، ليست هي اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمة. من الممكن أن تكون اللحظة هي التي كتبت فيها أول حرف من الكلمة، وقد تكون أصغر من ذلك عندما طرأت لي الفكرة، وإلى أصغر من ذلك قبل أن أدركها.
***
منذ ما يقرب من 2500 سنة، بين العامين 515 و460 ق.م.، وضع بارمينيدس حلا لهذه المعضلة. بتأمله “اللحظة” سمح لنفسه بأن ينتهي إلى أن الزمن، أو أبعد من ذلك إلى الوجود، هو اللحظة الحالية فقط. هذه اللحظة التي تمتد بشكل لانهائي، وأشبه بحلقة تبتلع الكون. ومن ثم كان التغيير، علاوة على الحركة، مستحيلان منطقيا.
إن فهم فلسفة بارمينيدس أكثر قابلية من هذا المدخل، بالإضافة إلى أنه على هذا الأساس يمكنك تناول مفارقات زينو الإيلي، التي وضعت تأييدا لنظرية بارمينيدس في الزمن، بشيء من الجدية. هذه المفارقات شغلت المفكرين والعلماء لأكثر من ألفي سنة، إلى أن تم التوصل علميا لمفاهيم مثل السرعة، واستحداث مفاهيم كالقوة. يتفق هذا المقال جزئيا مع نظرة بارمينيدس، ولكي أستطيع عرض فكرتي، عليّ أولا أن أفرّق بين الاعتبارات الإنسانية للزمن، وبين ما يمكن أن يكون موضوعيا.
عندما يقول أحدنا في 2015 “يوم”، فإنه بدقة يقصد فترة زمنية (24 ساعة). ولكن ليست أية أربعة وعشرين ساعة، بل الفترة متضمنة تعاقبا لليل والنهار، هكذا نفهم المقصود من كلمة “يوم”. تعتبر نواة هذا الطرح أن الليل، من الناحية الموضوعية، ليس ليلا بالمعنى المخصوص للكلمة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النهار، فكلاهما حالة من بلوغ ضوء الشمس لأجزاء معينة من كوكب الأرض. يعني هذا أنهما يحدثان على لا شيء بالتحديد، وأنهما عرضيان أكثر من كونهما موضوعيين.
نعتقد أن تعاقب الليل والنهار، فصول السنة، والمواسم الطبيعية يساعدنا على إدراك الزمن، ولكن الحقيقة أن إدراكنا الزمن بهذه الطريقة متعلق بالقياس (الحساب) الزمني الذي وضعناه من أجل قبيل من المعرفة أو التمييز، وليس لإضفاء طابع جوهري على الزمن. أعتقد أنه كان من المستحيل حساب اليوم الواحد كأربعة وعشرين ساعة بدون وضعية الأرض التي تسمح لها بالدوران حول نفسها في هذه الساعات؛ فلو كانت طبيعة الأرض كبعض مناطقها النائية، بحيث لا تسمح بتعاقب الليل والنهار في شكل غير موسمي، كان من المستحيل أن نتوصل لمفهوم السنة كاعتبار زمني مؤلف من 365 يوما؛وحينها كنا سندرك الطبيعة الفيزيائية لدوران الأرض حول الشمس، وأن إقحام الزمن دلالي ليس أكثر، لأن هذه التغيرات ليست كما نعتبرها زمنية بل فيزيائية، نتجت عن مدار الكوكب في مجموعته النجمية، من ثم لا يمكن أن تؤثر في الزمن، ومن ثم لا يمكن منطقيا خضوع الزمن لها.
كذلك تنبني كافة مشتقات الزمن على اليوم الواحد، مثل البارحة والغد، إلخ. وفكرة فناء البارحة في اليوم واليوم في الغد، تعني أن أنا البارحة، ليس أنا اليوم. بفناء البارحة في اليوم، فإن بالضرورة أنا البارحة يفنى في أنا اليوم؛ ويعني هذا التغيير المستمر للإنسان اعتباره أقرب للنيوترونات. إن وجود ما يمكن تسميته البارحة أو الغد يعني التغيير، وهذا التغيير شامل ولا يمكن استثناء الإنسان منه؛ لأن شعرنا وأظافرنا تنمو، أجسادنا تتغير، وهذه العملية لا تحدث فجأة بل في سيرورة مستمرة، وتؤيد نظريات علمية هذا الزعم، وأرى فيه صحة ما، لكني فقط لا أوافق على اعتبار البارحة والغد مشتقات زمنية، لأنهما نوع من القياس الذي يقوم على فرض استقرار غير حقيقي لأصغر وحدة زمنية، ومنها تصاغ مشتقات الزمن من الماضي، الحاضر، والمستقبل، إلخ.
تساعد التغيرات الفيزيائية (كالفصول والمواسم) إدراكنا البسيط للزمن من خلال تكرارها. هذا التكرار يُرهن بثبات مجازي ومؤقت للمجموعة الشمسية، وبالتالي لا يمكن أن توجد بشكل موضوعي كفترات زمنية. من هنا، نخلص إلى أن مبدأ التغيير الزمني على الأرض متزعزع، وأن السيرورة الزمنية تمتد بمنأى عن تلك الاعتبارات لأنها ليست زمنية. يعني هذا الامتداد أن البؤرة الزمنية تحتوي على الماضي، الحاضر والمستقبل.
يمنح هذا التفسير الزمن امتدادا مبسطا يسمح بالتغيير المستمر، يتوافق من ناحية ونظرية بارمينيدس، ومن ناحية أخرى يقوضها. فهو يقر تغييرا مستمرا في إطار امتداد زمني يتألف من أبعاد تشبه سلاسل الأرقام. فالصفر ليس نقطة انطلاق لسلسلة الأعداد الموجبة، بل نقطة التقاء بين سلسلتين من الأعداد (سالبة وموجبة). هذا التأمل الرياضي يبعد عن الزمن شبهة البداية، الاستقامة، وبالتالي النهاية. وعلى هذا الغرار، يمكن القياس:إذ ليس هناك ما يمنع أن يكون صفر الزمن تقاطعا بين بعدين أو أكثر.
ماهية الزمن
Published:

ماهية الزمن

في [ماهية] الزمن، مقال لكمال غازي، نشر في الأوان في يونيو 14, 2015

Published: